بدايةً أتمنى على القارئ والقارئة الكريمين ألا يستعجلا ويحكما على مضمون هذه التدوينة قبل نهايتها. فإحدى دعامات التفكير النقدي أن تكون نقدياً مع نفسك أولاً. وأن تتأكد من أنك فهمت بدقة المعنى المراد قبل أن تستعجل في إطلاق حكمك. هذه وللأسف إحدى العلل المنتشرة في مجتمعنا نسأل الله العافية.
نؤمن نحن المسلمون – على اختلاف مذاهبنا وانتماءاتنا – بأن هذا الدين هو خاتم الرسالات السماوية. وبأنه دين الرحمة والعدل والعقل والمنطق. نؤمن بأنه دين يتوافق مع الفطرة السليمة والتفكير المنطقي. ولكن لو سألنا أنفسنا، ما مدى توافق ما نؤمن به مع ماندعو إليه عملياً على أرض الواقع؟ ما مدى منطقية ما ندّعي أنه الإسلام؟ أعتقد أن أفضل مثال لذلك هو الحادثة التالية. فإحدى الفتيات من خلفية لادينية سمعت في إحدى المحطات الإذاعية من داعية إسلامي كبير بأن صوت المرأة عورة، وقد استفاض الداعية في توضيح تلك الفكرة وقدم نموذجاً للمرأة لم يتناسب مع تفكير تلك الفتاة. طبعاً وفي ظل ثورة الاتصالات ومواقع التواصل الإجتماعي قامت تلك الفتاة بوضع تعليق لها تنتقد هذه الفكرة. وانهالت التعليقات عليها بين مؤيد لمنطق الفتاة وساخر من ذلك الداعية ( الأمر الذي يؤدي في العادة إلى وقوع المشاحنة ولا يثمر عملياً ). وبين مدافع عن الداعية والإسلام. وقد جاءت تلك الدفاعات (1) تارةً بأن هذه القضية تتعلق بالدين ولا يجوز مناقشتها من أمثال تلك الفتاة. (2) وتارةً بأن الإسلام كرم المرأة وأعطاها حقوقها التي كانت مسلوبة (كإنسان وأم وزوجة وعضو مشارك في المجتمع كمهندسة وطبيبة وغيرها…) ولم يهضم منها شيئاً،(3) وتارةً بأن المشكلة ليست في ذلك الحكم الفقهي وإنما المشكلة بأننا لم نتفق على النقاط الأساسية العليا. يعني بأننا يجب أن نسلم لحكم الله وبأنه أفضل من شرع للبشر لا أن نخوض في تفاصيل الأحكام التي قد يعجز العقل عن فهم حكمتها. أتمنى على القراء الأكارم أن يتوقفوا لحظة ويفكروا ما هو أفضل رد ممكن لهذا التعليق.
يمكن لمن كان يعرفني قبل أن أسافر بأن يخمن الجواب الذي كنت سأختاره. صحيح، كنت سأختار آخر رد. كنت سأقول بأن المشكلة ليست في الحكم، وإنما فينا نحن. كنت سأقول بأننا يجب أن نسلم للأحكام دون مناقشة ولو بدت غير منطقية. فهل تعتقدون بأن بشراً سيأتي بأمر أفضل مما جاء به الله؟ كنت سأتكلم ساعةً بأدلة تؤيد هذه الفكرة. وربما كنت سأتهم تلك الفتاة أيضاً بأنها إما جاهلة بحقيقة الدين ولا يجوز أصلاً مناقشتها بتفاصيل الأحكام. أو أنها حاقدة على إسلامنا الحنيف! (لست متأكداً إذا ما كنت سأقول ذلك عن تلك الفتاة بالذات، ولكن هذه هي الصورة التي كانت لدي عموماً عن اللادينيين) هكذا كان سيكون ردي لو لم أسافر. ولكن الله شاء أمراً آخراً. (أود أن أذكر القراء مجدداً بما ذكرته في أول التدوينة من ضرورة قراءتها كاملةً)
أما الآن، فأنا أعتقد بأن الفتاة محقة تماماً وبأن اعتراضها في مكانه! إنني وكمسلم اؤمن يقيناً بأن أمر الله هو الأفضل قطعاً. ولو كانت هنالك آلية مباشرة يمكن للبشر من خلالها أن يعرفوا أحكام الله لماكان هنالك من سبيل آخر غير اتباع هذه الأحكام ولو بدت غير منطقية. ولكن الواقع غير ذلك، فالأحكام الفقهية هي نتيجة تفسير بشري ومحاكمة بشرية لنصوص سماوية، وبالتالي فالتسليم هنا لا يعني التسليم لله بقدر ما يعني التسليم لفهم بشري! فالمشكلة ليست في النص بتاتاً. المشكلة في فهم هذا النص، وهي عملية بشرية.
والردود التي جاءت يمكن تصنيفها في صنفين: صنف يقول بأنه لا يجوز التفكير ومناقشة الحكم. وسبب ذلك إما لأنك لست أهلاً لذلك (الرد الأول). أو لأن احكام الله أصلاً غير قابلة للنقاش (الرد الثالث). وصنف يقول بأن الإسلام ليس كما ذكرت الفتاة. والواقع هذا الكلام يتعلق بالإسلام حسب فهم كاتبه. فهو يحاول أن يدافع عن الداعية بأن يقدم صورة منطقية للإسلام. وقد قمت بنفسي بمراجعة رأي ذلك الداعية في تلك القضية ووجدت بأن الفتاة محقة (وهي ما أكدته أصلاً في تعليق لاحق عليه)، وبالتالي الرد الثاني لاعلاقة له باعتراض الفتاة.
حتى نكون منصفين، يجب الإعتراف بأنه ليس كل اعتراض يوجه لنا هو اعتراض خاطئ أو فهم ملتو للدين. أو بأن صاحبه (جرثومة) و(مندس) كما يقال حالياً على كل مخالف لوجهة النظر الواحدة. لابد من الاعتراف بأننا نحن المسلمون نعرض ديننا بشكل مخالف تماماً لما عرضه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. نعرضه متلبساً بموروث ثقافي عميق. نعرضه دون أن نفكر لحظةً في دراسة نقدية لهذا الذي نعرضه. ففي محضر النجاشي مثلاً قام الصحابة بعرض الدين عرضاً منطقياً متماسكاً أذهل النجاشي وأبكى بطارقته! وعندما عادوا في اليوم التالي وسألهم عن عيسى بن مريم (عليه وعلى رسولنا أطهر الصلاوات وأفضل التسليم) أجابوه بما يعتقدون أنه الحق والمنطق، وهم بهذا العرض في موقف قوة أكثر منه موقف ضعف، ولو خضعوا لمناظرة علمية حول هذه القضية لكانت في صالحهم، لأنه على الأقل لا يوجد تناقضات فيما يعرضونه.
نأتي اليوم ونعرض فهماً لهذا الدين يخالف أدنى درجات المنطق ومليئاً بالتناقضات، نقول بأن الإسلام كرم المرأة، ولكنه حرمها قيادة السيارة! وجعل صوتها عورة! وجعل أفضل صلاتها في أشد بيوتها ظلمة! وعندما نسمع اعتراضات على هذه التفسيرات الغير منطقية، نواجهها: عليكم بالصمت المقدس، فإعمال الفكر حرام هنا! وتزداد المشكلة حدةً عندما تتعلق بالأسئلة الوجودية، تلك الاسئلة التي تحتاج إلى فهم عميق وواسع للحياة والدين. فعندما تقدم لنا بعض الأجوبة على هذه الاسئلة الكبيرة، تقدم وكأنها الجواب الإسلامي الوحيد. فإذا ما شعرنا بعدم منطقيتها (كلاً أو جزءاً) وسألنا، يكون الجواب: ذلكم الشيطان! وكأن لزاماً علينا أن نقدس ذلك الفهم البشري وننزله منزلة كلام رب السماوات والأرض. منزلة المنزه عن النقد والتمحيص. وأحيانا يكون الجواب بطريقة تشعر السائل بأنه اخطأ وتمادى، فمثلاً يكون الجواب على قضية ما: أتعتقد نفسك أفضل من رسول الله؟! وهذا النوع من الأجوبة هدفه اسكات السائل وليس إجابته.
وقد دأب العديد من العلماء على تنقية تلك الصورة من تلك الأفهام أمثال (محمد الغزالي رحمه الله وغيره). شخصياً، أعتقد بأن المنطق يخرس الشيطان، والإجابة عن الاسئلة النقدية ليس: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وبأن تتفل عن يسارك ثلاثاً (ونسأل الله أن يعيذنا منه دائماً ويجعلنا في كنفه وحرزه) وإنما بالتفكير والبحث والاستعانة بالله. والأسئلة الكبيرة تحتاج إلى أجوبة كبيرة، ولا يمكن قصرها بأي حال من الأحوال على فهم وحيد وثابت. خصوصاً وأن لكل عصر تحدياته. طبعاً القضية ليست فوضى، ومن غير المقبول أن يقوم أي إنسان باستخراج الأحكام الفقهية بنفسه لأن للقضية منهجاً وطريقةً. ولكن من غير المقبول أيضاً ان يتم عرض تلك الأحكام بطريقة قطعية وكأنه لاعقل لمن يطبقها، علماً بأن آثارها تتعلق بشكل أساسي بالسائل وليس بالمفتي. وقد يقول قائل: لاحرج عليك ولو أخطأ المفتي، فإن كان أهلاً للفتوى وأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران. وأنا لا أتكلم عن هذه الناحية، لأنك لن تقنع المرأة التي حرمتها من القيادة ومن التكلم بأن تقول لها: لا تقلقي، لا حرج عليك، وللمفتي الأجر!
أضف تعليق